تجاني كارتا ,في عالم يموج بالمحتوى الرقمي المُصمّم باحترافية وبميزانيات ضخمة، تبرز بين الحين والآخر شخصيات نابضة بالحياة، تأتي من حيث لا يتوقع الجمهور، حاملةً معها نفحة من الصدق الخام، لتهزّ عروش المنصات الاجتماعية وتثبت أن جوهر التأثير ليس في زينة الإنتاج، بل في قبس الروح الإنسانية. وفي قلب هذه الظاهرة، يطل علينا الشاب السوداني تجاني كارتا، ليس مجرد “صانع محتوى” عابر، بل أصبح أيقونة ثقافية رقمية، ورمزاً للشاب المكافح الذي صاغ من واقع مرير فناً بهياً، وبنى من البساطة إمبراطوريةً من المتابعين تجاوزت المليون في رحلة قياسية تثير الدهشة.

تجاني كارتا من نيالا إلى أوروبا رحلة لم تُحكَ ولكنها تُقرأ بين السطور
تنحذر جذور كارتا من تربة مدينة نيالا في إقليم دارفور المضطرب، تلك المنطقة التي طالما ناهضت تحديات معقدة. ومن هناك، انطلقت رحلته الملحمية والصعبة، التي تشبه في صعوبتها روايات البؤس والأمل، حيث قطع آلاف الأميال براً عبر صحراء ليبيا القاسية، ليواجه بعدها أخطر محطات الرحلة: عبور البحر الأبيض المتوسط على متن قارب “السمبك” المهترئ، في رحلة لا يضمن فيها أحد العودة، حيث يكون الموت رفيقاً محتملاً والنجاة معجزة.
لكن المفارقة العميقة في شخصية كارتا تكمن هنا: لقد اختار أن يطوي صفحة الألم. فهو لم يستغل مأساة رحلته لاستعطاف المشاهدين أو ليكون مادة لقصص درامية، وهو المسار المتوقع للكثيرين. بدلاً من ذلك، قرر أن يكون نافذةً للأمل والمرح. لقد وصل إلى أوروبا حاملاً معه جرعةً من الحياة السودانية الأصيلة، واختار أن يطل على جمهوره بروح مختلفة تماماً، روح لا تعرف التعقيد، وتؤمن بأن الضحك هو اللغة العالمية التي تذيب الجليد وتقرب المسافات.
الانطلاقة المذهلةمن التيك توك إلى قلوب الملايين
كانت منصة “تيك توك“ هي المنصة التي أطلق منها شرارته الأولى نحو الشهرة. لم تكن لديه كاميرات عالية الدقة أو إضاءة احترافية أو فريق عمل. كل ما كان يمتلكه هو هاتف محمول وموهبة فطرية في التقاط اللحظة وإضفاء طابع كوميدي عفوي عليها. مقاطعه القصيرة، التي تروي تفاصيل يومه العادي في مهجره الجديد، كانت تشبه دفتر مذكرات مفتوح، لكنه مكتوب بلغة الضحك والسخرية اللطيفة من الذات.
سرعان ما انتقلت عدوى روحه المرحة إلى منصة “فيسبوك”، حيث وجد بيئةً أوسع تتيح له التواصل مع الجالية السودانية في كل مكان. أصبح اسم “كارتا” حديث السودانيين داخل الوطن وخارجه، ليس لأنه يقدم محتوى مُذهلاً تقنياً، بل لأنه يقدم ذاته الحقيقية. إنه “ابن الجيران” الذي تتواصل معه دون تكلّف، الشاب الذي يحكي عن تفاصيل قد تبدو تافهة للبعض – مثل تفاعله مع الطقس البارد، أو تجربته مع أكل أوروبي غريب – لكنه يحولها بفضل صراحته وخفة ظله إلى لوحات فكاهية تأسر القلوب.
الوجه الآخر للنجم تجاني كارتا المسؤولية والكفاح في الواقع
وراء ضحكات الكاميرا وشاشات الهاتف، يعيش كارتا حياةً أخرى من الكفاح والمسؤولية. فهو اليوم مقيم في بريطانيا، حيث يوازن بين متابعة دراسته والعمل بجدّ لتأمين قوته. هذه الصورة المزدوجة – “المهرج” العفوي على المنصات و”الجاد” الطموح في الحياة الواقعية – هي التي تزيد من احترام ومحبة متابعيه. فهو لا ينسى أهله وذويه، ويحرص على إرسال جزء من دخله لدعم أسرته في السودان، مجسداً قيماً التضامن الأسري والوفاء التي تلقى صدىً عميقاً في الثقافة السودانية.
سر الظاهرة لماذا أحبه الجمهور؟
يمكن اختصار سر نجاح كارتا الاستثنائي في عدة نقاط جوهرية:
- الصدق والعفوية: محتواه خالٍ تماماً من التصنع أو الحبكات المسبقة. المشاهد يشعر أنه يراقب شخصاً حقيقياً، وليس ممثلاً يؤدي دوراً.
- المرونة النفسية (Resilience): الجمهور يقرأ بين السطور. إنهم لا يرون شاباً يعيش في أوروبا فحسب، بل يرون ناجياً من رحلة مروعة اختار أن يكون متفائلاً بدلاً من أن يكون ضحية. هذه القوة النفسية هي مصدر إلهام للكثيرين.
- الحنين والهوية: لمتابعيه في الشتات، يمثل كارتا صلةً بالوطن وبنبض الشارع السوداني. ولمتابعيه داخل السودان، هو نموذج للشاب الذي يحلم ويكافح وينجح دون أن يفقد جوهره.
- التميز في البساطة: في زمن الإفراط في الإنتاج، أثبت كارتا أن الموهبة الحقيقية تكمن في القدرة على تحويل المألوف إلى استثنائي، وجعل التفاصيل اليومية البسيطة مصدراً للإبداع والبهجة.
تجاوز نجم السوشيال ميديا إلى أيقونة ثقافية
لم يعد تجاني كارتا مجرد وجه طريف على “تيك توك” أو “فيسبوك“. لقد تجاوز ذلك ليكون ظاهرة اجتماعية وثقافية رقمية. قصته هي رسالة قوية في عصرنا: أن النجومية الحقيقية يمكن أن تولد من هاتف محمول بسيط، ولكنها تحتاج إلى صوت صادق وقلب شجاع. إنه دليل على أن الإنسان قادر على أن يزرع زهرة من بين الصخور، وأن يختار الضحك رغم كل الألم، وأن العفوية وحدها، في كثير من الأحيان، هي أقوى استراتيجية لخوض معركة الشهرة وكسبها. كارتا ليس مجرد نجم؛ هو قصة إنسانية معاصرة عن الصمود والأمل، مكتوبة بلغة الضحك.